في عام 1855، قام دانيال ماكالوم، وهو مهندس مولود في اسكتلندا (1815-1878). بتصميم أحد أقدم الرسوم التوضيحية لخط سكة حديد نيويورك. وهو ما يمكن اعتباره نموذجاً مبكراً للهيكل التنظيمي. تم تنفيذ هذا التصميم بالتعاون مع الكندي جورج هولت هنشو (1831-1891). وهو مهندس مدني عمل في مشاريع متنوعة في كندا والولايات المتحدة والدنمارك. ورغم أن هذا الابتكار كان مهماً في تنظيم الأعمال. إلا أن مصطلح “المخطط التنظيمي” لم يبدأ استخدامه بشكل واسع إلا بعد حوالي 50 أو 60 عاماً. في عام 1914، قام المهندس الاستشاري ويلارد سي برينتون بنشر دليل بعنوان “الأساليب الرسومية لعرض الحقائق”. حيث روج فيه لاستخدام الرسوم البيانية، بما في ذلك المخططات التنظيمية، كأداة أساسية لعرض المعلومات بشكل فعال.

من الهندسة إلى التجارة: توسع استخدام المخططات التنظيمية

في البداية، كانت المخططات التنظيمية تُستخدم بشكل رئيسي في المجالات الهندسية. حيث كانت تركز على تنظيم المشاريع المعقدة مثل السكك الحديدية ومحطات معالجة المياه. ومع بداية عشرينيات القرن العشرين، بدأت هذه المخططات في الانتشار في عالم التجارة والأعمال. وتدريجياً، أصبح الهيكل التنظيمي أداةً لا غنى عنها لتنسيق العمل الفردي والجماعي داخل المنظمات من أجل تحقيق الأهداف الاستراتيجية. ويشير الهيكل التنظيمي اليوم إلى كيفية تنظيم العلاقات وتحديد قنوات الاتصال بين مختلف الأفراد والمجموعات داخل المنظمة.

العناصر الأساسية للهيكل التنظيمي

1. المركزية: توزيع السلطة واتخاذ القرار

المركزية تعني مدى تركيز سلطة اتخاذ القرار في المستويات العليا من المنظمة. في الهيكل المركزي، تكون القرارات الهامة محصورة في أيدي الإدارة العليا، مما يجعل عملية اتخاذ القرار أكثر تحكماً. ولكنها قد تكون أقل مرونة وسرعة. مثال على ذلك، إحدى الشركات العالمية في تصنيع المعدات الثقيلة في الثمانينيات. حيث كانت جميع قرارات التسعير تُتخذ في المركز الرئيسي للشركة. هذا الأمر أدى إلى بطء في الاستجابة لاحتياجات السوق المحلية. حيث كان على مندوب المبيعات الانتظار للحصول على موافقة المركز الرئيسي لتقديم خصومات، مما أدى إلى فقدان فرص في السوق.

في المقابل، الهيكل اللامركزي يتيح توزيع السلطة على مستويات أدنى، مما يسمح باتخاذ قرارات أسرع وأكثر ملاءمة للظروف المحلية. هذا النهج يُمكن الموظفين من الشعور بمزيد من المسؤولية والتمكين، ويزيد من رضاهم وإنتاجيتهم.

2. إضفاء الطابع الرسمي: توجيه السلوك والعمليات

إضفاء الطابع الرسمي في الهيكل التنظيمي يشير إلى وضع قواعد وسياسات وإجراءات مكتوبة تنظم كيفية أداء المهام داخل المنظمة. في هذه الهياكل، يتعين على الموظفين الرجوع إلى دليل الشركة أو إرشاداتها عند مواجهة أي مشكلة. مما يقلل من الغموض ويوفر توجيهات واضحة. ولكن، قد يؤدي هذا الإطار الرسمي إلى تقليل الابتكار والمرونة في اتخاذ القرارات. خاصة في الحالات التي تتطلب استجابات سريعة وإبداعية.

إضفاء الطابع الرسمي يُعتبر مفيداً في البيئات التي تتطلب الالتزام الصارم بالقواعد. مثل المؤسسات المالية أو الصناعية الكبيرة، حيث يساهم في ضمان الامتثال وتجنب الأخطاء. على الجانب الآخر، يمكن أن يؤدي هذا النوع من الهياكل إلى انخفاض الحافز الوظيفي بسبب تقييد الإبداع والاستقلالية.

3. المستويات الهرمية: التحكم والإشراف

المستويات الهرمية تشير إلى عدد الطبقات الإدارية التي تفصل بين الموظفين في الخطوط الأمامية والمستويات العليا للإدارة. في الهياكل العالية، يتواجد عدد كبير من الطبقات. مما يتيح للإدارة العليا مراقبة الأنشطة بشكل دقيق، ولكنه قد يؤدي إلى بطء في اتخاذ القرارات. أما في الهياكل المسطحة، يكون عدد الطبقات الإدارية أقل، مما يمنح الموظفين حرية أكبر في العمل ويزيد من سرعة اتخاذ القرارات، ولكنه قد يسبب غموضاً في الأدوار ويقلل من فرص التوجيه والإشراف.

الهياكل الهرمية العالية تناسب الشركات الكبيرة التي تحتاج إلى تنظيم معقد ودقيق، حيث يشعر الموظفون بأمان وظيفي أكبر بسبب الوضوح في التسلسل الإداري. من ناحية أخرى، الهياكل المسطحة تكون أكثر فعالية في البيئات الديناميكية التي تتطلب مرونة وسرعة في الاستجابة للتغيرات.

4. التقسيمات الإدارية: تنظيم العمل وتوزيع المهام

الهياكل التنظيمية تختلف في كيفية تقسيمها الإداري، ويتم تصنيفها عادةً على أنها إما وظيفية أو تقسيمية. في الهيكل الوظيفي، يتم تقسيم الموظفين بناءً على التشابه في المهام والوظائف، مثل التسويق، التصنيع، الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات. هذا النوع من التنظيم يُعزز من كفاءة العمل، حيث يتمكن الموظفون من تطوير خبراتهم في مجالاتهم المتخصصة. أما في الهيكل التقسيمي، فيتم تقسيم المنظمة بناءً على المنتجات، الخدمات، أو المواقع الجغرافية، مما يتيح مرونة أكبر في تلبية احتياجات العملاء والاستجابة لتغيرات السوق.

على سبيل المثال، في الشركات التي تقدم مجموعة متنوعة من المنتجات، يكون الهيكل التقسيمي أكثر فعالية، حيث يتم تنظيم الأقسام بناءً على المنتج أو الخدمة التي تقدمها الشركة، مما يسمح بتخصيص الموارد بشكل أفضل لتلبية احتياجات كل قسم. وفي بعض المنظمات، قد يتم الجمع بين الهيكل الوظيفي والتقسيمي، حيث يتم تنظيم بعض العمليات مركزياً بينما يتم تقسيم الوظائف الأخرى حسب المنتج أو المنطقة الجغرافية.

الهياكل الميكانيكية والعضوية: مرونة مقابل ثبات

1. الهياكل الميكانيكية

الهياكل الميكانيكية تُشبه البيروقراطيات، حيث تكون مركزية للغاية ورسمية، مع قنوات اتصال محددة بدقة وتوصيفات وظيفية واضحة. في هذه الهياكل، يميل الموظفون إلى أداء أدوار محددة بدقة، مما يؤدي إلى كفاءة عالية في بيئات مستقرة ولكن قد يعوق الابتكار. على سبيل المثال، شركة مثل ماكدونالدز تعتمد على هيكل ميكانيكي، حيث يكون لكل وظيفة وصف محدد وخطوط اتصال واضحة، مما يتيح إنتاج منتجات موحدة على مستوى العالم بتكلفة منخفضة.

2. الهياكل العضوية

على النقيض من ذلك، الهياكل العضوية تتميز بالمرونة واللامركزية، مع مستويات منخفضة من الطابع الرسمي. في هذه الهياكل، يُطلب من الموظفين أداء مهام متعددة بناءً على احتياجات الشركة ومهاراتهم الشخصية، مما يُشجع على الابتكار وريادة الأعمال. مثال على ذلك، شركة 3M التي تعتمد على هيكل عضوي يتيح للمديرين الاستقلالية في اتخاذ القرارات ويشجع على الابتكار، مما يساهم في إنتاج منتجات جديدة ومتنوعة بشكل مستمر.

التوازن بين المركزية واللامركزية: تحديات وفرص

تحقيق التوازن الصحيح بين المركزية واللامركزية يُعد تحدياً كبيراً لمعظم المنظمات. على سبيل المثال، إحدى الشركات العملاقة في مجال البيع بالتجزئة قررت مركزة معظم عملياتها لتوفير التكاليف، مما أدى إلى تحسين الربحية ولكن على حساب فقدان الابتكار والثقافة الموجهة نحو الخدمة. في المقابل، قد تساعد اللامركزية في تمكين الموظفين وزيادة رضاهم، ولكنها قد تؤدي أيضاً إلى فقدان السيطرة وزيادة التكاليف.

الخاتمة: أهمية إدارة الهيكل التنظيمي بشكل صحيح

في الختام، يُعد الهيكل التنظيمي أداة حيوية في إدارة وتنسيق الأنشطة داخل المنظمات. يعتمد نجاح أي مؤسسة على كيفية تصميمها وإدارة هيكلها التنظيمي بما يتناسب مع احتياجاتها وأهدافها الاستراتيجية. من خلال فهم العناصر الأساسية للهيكل التنظيمي وتطبيقها بفعالية، يمكن للمنظمات تعزيز قدرتها على التكيف مع التغيرات، وتحقيق أهدافها بكفاءة أكبر، وضمان استدامة النجاح على المدى الطويل.

اقرأ ايضاً هياكل المنظمات المصفوفية ولا محدودة والمتعلمة

Estimated reading time: 8 دقائق

e-onepress.com

About Author

One thought on “تطور الهيكل التنظيمي: من الهندسة إلى التجارة وتطبيقاته في إدارة الأعمال الحديثة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Verified by MonsterInsights