مأساة المشاعمأساة المشاع

(مأساة المشاع) مصطلح يعود للعالم “غاريت هاردين”. الذي صاغه في مقاله الشهير الذي نشر في مجلة “Science” عام 1968. للاطلاع على مقالته اضغط على هذا الرابط على موقع JSTOR.

مفهوم (مأساة المشاع) كما صاغه غاريت هاردين.

أشار “غاريت هاردين” أن أفراد المجتمع وبدافع من مصلحتهم الشخصية. يميلون في العادة إلى استغلال الموارد المشتركة فيما بينهم بأقصى قدر ممكن. مما سيؤدي في نهاية المطاف الى تدمير هذه المورد. والسبب وراء هذا الدافع يعود لاعتقاد كل فرد بأن مساهمته الفردية في الاستخدام المفرط لهذه الموارد المشتركة. لن يكون لها تأثير بشكل كبير على الاخرين. وأعطى “هاردين” مثالاً على (مأساة المشاع) عن حالة الرعي المفرط في المراعي المفتوحة. حيث كتب: “عندما يقوم كل مالك ماشية بإضافة المزيد من الماشية للرعي في الأرض المشتركة. قد لا يكون لهذا الأمر تأثير واضح في البداية. ولكن مع زيادة عدد الماشية، تبدأ الأرض بالتدهور وتصبح غير قادرة على دعم هذا العدد المتزايد. مما يؤدي في النهاية إلى فقدان المورد بالكامل.”

في هذه المقالة ومن اجل وجود مجتمع متماسك اجتماعياً في علاقاته واخلاقياً في سلوكياته. سوف نوضح ماذا يحدث للمجتمع عندما تنتشر فيه (مأساة المشاع). ونفحص تأثيرها على قيم المجتمع. ولماذا علينا مقاومة مثل هذه القيم الكارثية.

فهم (مأساة المشاع) في السياقات الاجتماعية.

بينما القيم الإيجابية مثل: الأمانة. والتعاطف. والتعاون تقوم بتقوية الروابط الاجتماعية، وتخلق مجتمعات داعمة. فعلى النقيض منها عندما يضع الأفراد مصلحتهم الذاتية في المقام الأول. عندها تسود القيم السلبية مثل: التعصب والتمييز، والأنانية، والجشع، وعدم الأمانة فتتفتت الروابط الاجتماعية. هذا التفتت يؤدي إلى أن تتآكل الثقة مع عدم الأمانة. ومع انتشار الأنانية يقل الدعم المجتمعي، ومع طغيان الرغبات الفردية على التناغم الجماعي يضعف التماسك الاجتماعي. مما يجعل من الصعب على المجتمع العمل معاً لتحقيق الأهداف المشتركة.

بعد أن تم تقديم مفهوم “مأساة المشاع” وتوضيح كيف تؤدي التصرفات الفردية المدفوعة بالمصلحة الذاتية إلى تدهور الموارد المشتركة. يمكننا الآن الانتقال لاستكشاف كيف يؤثر هذا المفهوم على قيم المجتمع.

تأثير (مأساة المشاع) على المجتمعات.

التماسك الاجتماعي:

تصرفات الأفراد المدفوعة بمصالحهم الشخصية تؤدي الى تآكل في التماسك الاجتماعي. والقيم الكارثية مثل: التعصب والتمييز يزرعان الانقسام والصراع داخل المجتمع. مما يخلق بيئة من عدم الثقة والعداء بين افراد المجتمع. ويجعل من الصعوبة على المجتمعات أن تعمل معاً لتحقيق الأهداف المشتركة.  

واصافة لذلك يحدث الانقسام والصراع في المجتمع عندما يتم تهميش دور الأفراد أو المجموعات على أساس: العرق، أو الإثنية أو الدين، أو غيرهما من الخصائص التميزية الأخرى. من الأمثلة التاريخية على حالات الانقسام والصراع في المجتمعات: الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والفصل العنصري في الولايات المتحدة، والابادة الجماعية في رواندا. حيث أدى تمسك بعض الافراد من هذه المجتمعات بالقيم السلبية إلى صراعات اجتماعية طويلة الأمد وظلم لأفراد المجتمع.

على العكس من ذاك، ومن اجل مجتمعات تقوم على التعايش السلمي، والمحبة والوحدة. شدد الدين الإسلامي على أهمية تماسك المجتمع وعلى عدم التمييز بين الافرد. قال الله تعالى في القرآن الكريم سورة (الحجرات: 13). “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”

بعد ان ناقشنا كيف تساهم القيم الكارثية في تآكل التماسك الاجتماعي، وتعرفنا على تأثير القيم السلبية على الروابط الاجتماعية. دعونا ننتقل إلى تأثير هذه القيم الكارثية على الاستقرار الاقتصادي للمجتمعات.

عدم الاستقرار الاقتصادي.

القيم السلبية مثل: الجشع، والسعي المستمر لتحقيق الأرباح يمكن لها أن تقوض الاستقرار الاقتصادي. وبالتالي، عندما يضع الأفراد أو الشركات مكاسبهم قصيرة الأجل فوق الاعتبارات الأخلاقية والاستدامة طويلة الأجل سيؤدي ذلك إلى أزمات اقتصادية.

 تعتبر الأزمة المالية العالمية لعام 2008 مثالاً بارزاً على تأثير القيم الكارثية على الاستقرار الاقتصادي. فبدافع الجشع والممارسات المالية المتهورة انخرطت المؤسسات المالية الكبرى في سلوكيات محفوفة بالمخاطر أدت في النهاية إلى انهيار اقتصادي واسع النطاق. ولم تؤثر هذه الأزمة على الأسواق المالية فحسب. بل كان لها أيضاً تداعيات خطيرة على الملايين من الأفراد، مما أدى إلى: فقدانهم لوظائفهم، والحجز على بيوتهم، وزيادة الفقر في المجتمع.

لقد حذرنا الله “سبحانه وتعالى” من الجشع والممارسات المالية المتهورة وحثنا على: اتباع المعاملات المالية العادلة، وتجنب الجشع والفساد، وأهمية التوازن بين السعي وراء الثروة والحفاظ على القيم الأخلاقية.  قال الله تعالى في القرآن الكريم: “وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” (البقرة: 275).

بعد ان اتضح لنا مدى تأثير القيم السلبية مثل: الجشع على الاستقرار الاقتصادي، سنرى كيف يمكن للقيم الكارثية أن تؤدي إلى تدهور الثقة في المؤسسات.

تدهور الثقة في المؤسسات.

يمكن أن تؤدي القيم الكارثية الى تآكل الثقة في المؤسسات، والشركات، والنظم القانونية بما في ذلك الحكومات. بحيث تتضاءل الثقة العامة عنما ينظر افراد المجتمع إلى القادة والمؤسسات على أنهم فاسدون أو غير أمناء أو يسعون وراء مصالحهم الذاتية. سيؤدي ذلك إلى انخفاض مشاركتهم المدنية حيث يشعر الأفراد بخيبة الأمل والعجز، وبالتالي ينتج عن اليأس، والعجز عدم استقرار سياسي، واضطرابات الاجتماعية. ولنا على ذلك خير مثال: انتفاضات الربيع العربي في أوائل 2010، التي كانت مدفوعة جزئياً بالفساد الواسع النطاق، وانعدام الثقة في المؤسسات الحكومية، مما أدى إلى اضطرابات سياسية واجتماعية كبيرة في العديد من البلدان.

مع ان الله “سبحانه وتعالى” وجهنا الى الحكم بالعدل، والنزاهة، التان تؤديان إلى الثقة والاستقرار في المجتمع. فقال الله تعالى في محكم تنزيله: “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ” (النساء: 58).

ناقشنا في هذا القسم كيف تؤدي القيم السلبية مثل: الفساد إلى تآكل الثقة في المؤسسات، مما يقود إلى انخفاض المشاركة المدنية وعدم الاستقرار السياسي. ولكن هل للقيم الكارثية اية تأثيرات سلبية مباشرة على الصحة العقلية والرفاهية العامة للأفراد؟

تأثيرها على الصحة العقلية والرفاهية.

يمكن أن يكون لانتشار القيم الكارثية آثار ضارة على الصحة العقلية والرفاهية العامة للأفراد. حيث تعاني المجتمعات التي تشهد مستويات عالية من عدم المساواة، والتمييز، والمنافسة من معدلات متزايدة من القلق والاكتئاب. ويمكن أن يؤدي الضغط للامتثال لتوقعات المجتمع وتحقيق النجاح المادي إلى شعور أفراد المجتمع بالنقص، وانخفاض احترام الذات. بالإضافة إلى ذلك، تكون المجموعات المهمشة التي تواجه التمييز والتحامل المستمرين في خطر أكبر للإصابة بمشاكل الصحة العقلية، وذلك بسبب توترهم المزمن والصدمة التي يتعرضون لها.

لهذا أمرنا الله بالحفاظ على النفس ورفاهيتها، والسلام الداخلي، والتفاؤل استنادً لقول تعالى في القرآن الكريم: “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً” (النساء: 29).

ولا يقتصر تأثير القيم الكارثية على الأفراد فقط، بل يمتد ليشمل تدهور البيئة أيضاً.

تدهور البيئة.

عندما يفضل الافراد التنمية الاقتصادية على المحافظة على البيئة . ويقومون بممارسات غير مستدامة لمواردهم الطبيعية مثل: إزالة الغابات، وزيادة التلوث في الهواء، والتغير في المناخ.

إن هذه الممارسات التي يقومون بها بدافع الجشع، وزيادة النمو الاقتصادي. سيؤدي تأثيرها طويل الأمد الى فقدان التنوع البيولوجي، وانخفاض جودة الحياة، وزيادة الضعف أمام الكوارث الطبيعية. مما يزيد من التوتر في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية.  

لقد حثنا الله “سبحانه وتعالى” على تجنب هذه القيم الكارثية. عندما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم: “وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا” (الأعراف: 56). فهذه الآية تؤكد على أهمية العناية بالأرض، وتأمرنا بالمحافظة على مواردنا الطبيعية.

بعد ان أدركنا مدى تأثير (مأساة المشاع) نتيجة للقيم الكارثية، سنتعرف الان على بعض الحلول الممكنة لتخفيف من مدى تأثيرها على المجتمعات:

التخفيف من تأثير القيم الكارثية.

أولاً: من خلال التعليم وحملات التوعية في المدارس ووسائل الإعلام والمنظمات المجتمعية يمكن أن يؤدي ذلك الى تعزيز القيم الإيجابية مثل: الصدق، والتعاطف، والتعاون، الرحمة.

ثانيًا، يمكن أن يؤدي تقوية المؤسسات التي تلتزم بالمعايير الأخلاقية إلى ردع الممارسات الفاسدة وتعزيز النزاهة. امتثالاً لقول الله تعالى في القرآن الكريم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة: 119).

ثالثاً، من خلال مشاركة افراد المجتمع في الأنشطة الاجتماعية والسياسية  يؤدي ذلك إلى تعزيز الشعور بالانتماء، واهمية التعاون والمشاركة المجتمعية.  كما ورد في القرآن الكريم: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” (المائدة: 2).

رابعاً: توفير أنظمة الدعم مثل: خدمات الاستشارة والمراكز المجتمعية يساعد الأفراد على مواجهة التحديات التي تفرضها القيم السلبية ويعزز من رفاهيتهم العقلية.

خامساً: القيادة والنماذج التي تجسد القيم الإيجابية تلهم الآخرين وتؤثر في الثقافة العامة. قال الله تعالى في القرآن الكريم: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” (الأحزاب: 21).

بالتالي، يتطلب التخفيف من تأثير القيم الكارثية على المجتمع تعاوناً جماعياً وجهوداً مستمرة لتعزيز القيم الإيجابية.

الخاتمة.

في النهاية، تؤكد (مأساة المشاع) على الأهمية القصوى للقيم المشتركة في تعزيز التماسك الاجتماعي، والاستقرار الاقتصادي، والثقة في المؤسسات، وصحة البيئة. ويتضح من خلال هذا المقال كيف يمكن للقيم السلبية مثل الجشع، الأنانية، والفساد أن تؤدي إلى تدهور هذه الجوانب الحيوية. وعلى الجانب الآخر، نجد أن القيم الإيجابية مثل الأمانة، التعاطف، والتعاون تلعب دوراً حيوياً في بناء مجتمعات قوية ومستدامة.

لقد ناقشنا التأثيرات السلبية لمأساة المشاع على المجتمع، من تآكل التماسك الاجتماعي، إلى الأزمات الاقتصادية، وانعدام الثقة في المؤسسات، وصولاً إلى تدهور البيئة والصحة العقلية. ومن ثم، قدمنا مجموعة من الحلول العملية لتخفيف هذه التأثيرات، من خلال التعليم، وتعزيز النزاهة في المؤسسات، والمشاركة المجتمعية الفعالة.

ندعوكم إلى التفكير في هذه الحلول وتطبيقها في حياتكم اليومية والمجتمعية. كما نود أن نسمع آرائكم وتعليقاتكم حول الموضوع. وما رأيكم في الحلول المقترحة لتخفيف تأثير مأساة المشاع؟ وهل لديكم أفكار أو تجارب شخصية يمكن أن تسهم في تعزيز القيم الإيجابية في المجتمع؟

إن صحة علاقاتنا الاجتماعية هي مسؤولية جماعية. وهي الأساس الذي يضمن قوة واستدامة المجتمع للأجيال القادمة. بمساهمتكم، يمكننا بناء مجتمع أكثر تماسكاً واستدامة. حيث تزدهر القيم الإيجابية ويُحترم فيه الجميع.

اقرأ ايضاً. العوامل الخفية وراء سقوط وازدهار الحضارات – قراءة في كتاب الانهيار لجاريد دايموند

e-onepress.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Verified by MonsterInsights