الثقة حين تمنَح، لا تعامل كتنازل مؤقت أو تفويض محدود، بل تمنَح كعهدٍ أخلاقي يعلو على النصوص القانونية. فالفرد أو المؤسسة لا يطالَب بمراقبة كل تفصيل، لأن أساس التعامل يرتكز على افتراض حسن النية (good faith). لكن، حين تخترق هذه القاعدة من الداخل. يبرز سؤال جوهري:
هل يُلام من ائتمن لأنه لم يشك، أم يُصان لأنه خُدع؟
إن تحميل الضحية عبء الخيانة يعيد تعريف العدالة بطريقة تهدد البنية الأخلاقية للمجتمع. وتضعف ما وصفه لومان بأنه وظيفة الثقةهي في تقليل التعقيد الاجتماعي وتيسير التعاون رغم عدم اليقين (Luhmann, 1979).
ففي كل مرة يعاقب فيها من وثق، تزرَع بذرة تآكل في أساس العلاقات المدنية، وتهدَّد القدرة على التعايش ضمن منظومة مبنية على التفاهم بدلًا من الارتياب.
في هذا المقال، نستعرض الحدود الدقيقة بين الخطأ في التقدير، وسوء النية المنظّم، ويطرح تساؤل حاسم:
هل يمكن أن يدان من وثق، فقط لأنه لم يكن خبيراً في الشك؟
تتم مناقشة ذلك في سياقات قانونية، ونفسية، وأخلاقية. تؤكد أن الغدر لا يُواجه بالإدانة، بل يُستلزم الحماية.
أولاً: الثقة كقيمة قانونية وأخلاقية
لا تعتبر الأنظمة القانونية الثقة مجرد شعور عاطفي أو حالة داخلية، بل تضعها كعنصر بنيوي جوهري في تكوين الإرادة الحرة (free will). ومن هذا المنطلق، تمنح الثقة التعاقد طابعاً عقلانياً يقوم على التوازن والاطمئنان. وعندما يبرم الأفراد أو الكيانات عقودهم، لا يطلب منهم التحوّط لكل احتمال غدر، بل ينتظر منهم أن يطمئنوا إلى التزام الطرف الآخر.
لا يستند هذا الافتراض إلى النوايا الطيبة، بل يرتكز على مبدأ راسخ في الفقه القانوني يعرف بمبدأ حسن النية (principle of good faith)، وهو من أبرز أعمدة التعاقد في معظم الأنظمة المدنية، ويستخدم كقاعدة لتفسير وضبط سلوك الأطراف أثناء تنفيذ العقود (Zimmermann, 1996). ومبدأ حسن النية (principle of good faith)، الذي هو أحد أعمدة التعاقدات في أغلب الأنظمة المدنية، يمثّل قاعدة تأويلية وضابطة لسلوك الأطراف أثناء تنفيذ العقود (Zimmermann, 1996).
وقد عالجت دراسات عربية هذا المبدأ من منظور تأصيلي يربطه بجذوره في الفقه الإسلامي والقانون المقارن، كما في دراسة السقا التي تناولت حسن النية في مفاوضات عقود التجارة الدولية، مؤكدة أنه لا يقتصر على مرحلة تنفيذ العقد بل يبدأ من مرحلة التفاوض (السقا، 2016).
ثانيًا: السكوت بين القبول والخداع
يفترض في الأصل أن السكوت في المعاملات لا يعتبَر قبولًا، إلا إذا اقترن بمؤشرات واضحة على الرضا. غير أن هذا المبدأ كثيراً ما يساء تأويله في النزاعات المالية، فينظر إلى الصمت باعتباره إقراراً ضمنياً، رغم أن غياب الاعتراض لا في ذاته يعتبر تصرفاً دالًا على القبول. وهذا التأويل المخل يبطل جوهر التوازن التعاقدي، ويحمّل الطرف الأضعف عبء الإثبات دون مستند قانوني واضح.
وقد أرست محكمة اللوردات البريطانية في قضية Brogden v. Metropolitan Railway Co. (1877) مبدأً قضائياً حاسماً، مفاده أن “السكوت لا يعتبَر قبولًا إلا إذا ترافق مع سلوك يفيد بالرضا”، مما يعكس فهماً دقيقاً للسلوك السلبي في السياق التعاقدي (All England Law Reports, 1877). ورغم مرور أكثر من قرن، لا تزال هذه القاعدة تنتهك، خصوصاً في الحالات التي يستغل فيها الصمت كذريعة لتثبيت الالتزام.
اقرأ ايضاً إرث من النزاهة والثقة المتجددة – الجزء الخامس
وقد عبّر القاضي الأمريكي بنجامين كاردوزو عن هذا التحيّز القانوني في قوله: “المتساهل لا يعدّ مذنباً، والخدعة لا تتحوّل إلى صفقة لأن أحدهم لم يصرخ فوراً” (Cardozo, 1925, p. 121)، وهي عبارة تختزل الموقف الأخلاقي من تحميل الضحية مسؤولية عدم الاحتجاج الفوري، وتعكس اتجاهاً قضائياً يرفض تحويل الصمت إلى سلاح ضد من وثق أكثر مما ينبغي.
كما أن الفقه العربي لا يخرج عن هذا الاتجاه، فالقانون المدني المصري مثلاً ينص في مادته (98) على أن “السكوت لا يعتبَر قبولًا إلا في حالتين استثنائيتين”، ما يعزز مركزية مبدأ الرضا الظاهر في نظرية العقد (يوسف، 2019). وبذلك، يتضح أن القاعدة المستقرة، سواء في الأنظمة الأنجلوساكسونية أو المدنية، تحذّر من تحميل السكوت ما لا يحتمل من دلالات قانونية.
وتكمن خطورة هذا التفسير حين تمارسه المؤسسات الكبرى ضد الأفراد، مستغلة الصمت المربك أو الناتج عن تضليل مقصود. فغياب الاعتراض لا يعني بالضرورة غياب الإرادة، وقد يكون نتاجاً لانعدام البدائل أو تلاعب في المعلومات، مما يصنّف ضمن الخداع السلبي (passive deception)- وهو سلوك موثق في علم النفس الاجتماعي، ويعرف بأنه تعمُّد حجب المعلومات أو تأخيرها بنية التضليل، حتى دون الإدلاء بتصريح كاذب (Ekman, 2001).
ثالثًا: الخداع المنظَّم وتشويه العدالة
حين يدار الخداع بوعي وتخطيط، لا يكون مجرد تجاوز فردي، بل يتحوّل إلى ممارسة مؤسسية ممنهجة تعيد توزيع المسؤولية القانونية بشكل غير عادل. وعندئذ، يجبر من وثق على تبرير قراره، لا لأن سلوكه كان خاطئاً، بل لأنه قرر أن يثق في بيئة تحابي المكر المؤسسي على حساب السلوك الحسن. وهنا تنقلب المفاهيم، وتتحوّل الضحية إلى متهم، ويعاد تعريف العدالة بشكل يخالف مقاصدها الأصلية.
في هذا السياق، يبرز الفيلسوف الأمريكي جون رولز ما يسميه العدالة كإنصاف (justice as fairness)، مؤكداً أن النظام العادل لا يعاقب من تصرف بنيّة حسنة، بل يوفّر له مظلة حماية ضد من استغل تفوّقه لإلحاق الضرر بالآخرين (Rawls, 1971).
اقرا ايضاً الفساد عبر العصور: من أدوات الولاء إلى شبكات النفوذ
وهذا ينسجم مع الفقه العربي الحديث، حيث من حق الطرف المتعاقد حسن النية أن يحمى قانونياً من التضليل، لأن “الخداع المخطَّط يصبح، كما أوضح سليمان (2019)، ‘إخلالاً بإرادة التعاقد الحر’ لا مجرد مخالفة للثقة.
وفي حقل القانون المقارن، تشير دراسة Fuller & Eisenberg (1978) إلى أن المحاكم غالباً ما تقرّ بوجود “سلوك احتيالي من طرف واحد” متى ثبت أن أحد الأطراف استخدم موقعه الأقوى للتأثير على قرارات الطرف الآخر، حتى دون إثبات سوء النية الظاهرة. وفي الحالات التي يتضح فيها أن المعلومات حجبت أو شوّهت عمدًا، تُرتب المسؤولية بناءً على النتيجة الضارة لا النية المعلنة.
إن استمرار العلاقة التعاقدية في حالة “نشاط صوري” مع إخفاء الخيار الحقيقي للطرف الأضعف، يعدّ من أبرز صور الغدر القانوني . ويظهر ذلك جلياً في السياق المالي، حيث أشار تقرير منظمة الشفافية الدولية إلى أن “التحايل البنكي على العملاء غير المتخصصين يعتبر من صور الفساد الرمادي، لأنه لا يظهر كخرق مباشر، بل يتسلل عبر ثغرات الثقة والتقنية” (Transparency International, 2021، ص. 17).
وقد خلص أبو الهيجاء (2014) في دراسة مقارنة حول الغش والخداع في العقود إلى أن “السكوت عن إيضاح الحقائق الجوهرية، متى كان الطرف الآخر يجهلها، يعدّ سلوكاً احتيالياً موجباً للتعويض، حتى دون إثبات نية الغش”، مما يعكس تطوراً فقهيا يعترف بالخداع المنظَّم كمسؤولية مستقلة عن النية.
وعليه، فإن حماية الثقة في هذا السياق ليست ترفاً قانونياً، بل ضرورة تشريعية وتنظيمية لضمان التوازن بين الأطراف غير المتساوية في المعرفة أو النفوذ، وحماية الإرادة التعاقدية من الانحراف المنهجي.
رابعًا: الثقة بين الأفراد والعاملين – أسرار لا يُفترض خيانتها
لا تقتصر الثقة على المعاملات الرسمية أو العلاقات التعاقدية، بل تمارس ضمن نسيج الحياة اليومية، سواء في البيوت أو بيئات العمل أو العلاقات الاجتماعية غير الرسمية. وتعدّ الأسرار التي يُؤتمن عليها الأشخاص – خصوصاً العاملين والموظفين – أمانة مهنية وأخلاقية، لا فرصة للاستغلال أو الانتقام.
في بيئات العمل، لا يُمنح الموظف حق الوصول إلى المعلومات الحساسة بناءً على سلطته، بل لأن المؤسسة منحته الثقة بوصفه طرفًا يُعوّل عليه أخلاقيًا ووظيفيًا. وتُعرّف منظمة العمل الدولية (ILO, 2020) خيانة أسرار العمل بأنها: “أي استخدام غير مشروع لمعلومة داخلية بهدف تحقيق مصلحة شخصية أو الإضرار بمصالح الجهة المالكة للمعلومة“، مؤكدة على الطبيعة الأخلاقية والمهنية لهذا الالتزام.
وقد كرّست المحكمة العليا الألمانية هذا المفهوم في قرارها الصادر سنة 2009 (BGH, 26.03.2009 – I ZR 153/06)، حيث قضت بأن تسريب المعلومات السرية من قِبل موظف إلى جهة خارجية – حتى في غياب اتفاق خصوصية صريح – يُعدّ إخلالًا بواجب الولاء (Treuepflicht)، وهو التزام قانوني وأخلاقي ناشئ عن طبيعة العلاقة التعاقدية نفسها، لا عن نص مكتوب فقط.
اقرأ ايضاً (مأساة المشاع) كيف تؤدي التصرفات الفردية إلى تدهور في الموارد المشتركة.
من جانبه، يؤكد الباحث David Zweig (2007) في دراسته حول الثقة المؤسسية أن “الشعور بالخيانة في بيئات العمل يتجاوز الأثر المالي، ويترك أثرًا نفسيًا يُقوّض الانتماء، ويُضعف الأداء طويل الأمد”، وهو ما يُبرز أن خيانة الثقة ليست انتهاكًا عرضيًا، بل تهديد مباشر لاستقرار العلاقات المهنية التي تقوم على الثقة المتبادلة
حتى في العلاقات غير الرسمية، بين الأصدقاء أو الشركاء، يُعدّ إفشاء السر المؤتمن عليه صورة من صور الغدر الأخلاقي. وقد عبّر الحديث الشريف عن هذا المعنى بقول النبي ﷺ : “إذا حدّث الرجل بحديث ثم التفت، فهي أمانة“ (الترمذي، حديث رقم 1959)، في إشارة واضحة إلى أن الأمانة تُستفاد من السياق والعرف، وليس فقط من التوثيق الصريح.
إن خيانة الثقة، سواء من خلال استغلال النفوذ المعرفي أو إفشاء الأسرار، تستدعي سياسات تنظيمية صارمة، لا التساهل أو التجاهل، لأن حماية الثقة داخل العلاقات الشخصية والمهنية تُشكّل قاعدة أساسية لحفظ النظام الأخلاقي داخل المجتمعات والمؤسسات.
الخاتمة
لا يمكن لأي مجتمع أن يزدهر حين يعاقَب من وثق، ويكافَأ من غدر. فالثقة لا تعدّ سذاجة، ولا يفترض بالسكوت الصادر عنها أن يؤوّل كتنازل عن الحق أو إذعان للظلم. بل إن الصمت الذي يصدر عن افتراض الخير لا يجب أن يحمّل تبعات الخداع، لأن الثقة حين تمنَح، تفصح عن إيمان بالإنصاف لا عن تفريط بالحماية (Rawls, 1971).
في كل مجال من مجالات الحياة – سواء العقود أو الوظائف أو العلاقات اليومية – تتكرر خيانات الثقة، إلا أن العدالة الحقّة لا تساوي بين من وثق ومن استغل. فالمبدأ القانوني الراسخ، كما أكده القضاء المقارن (Fuller & Eisenberg, 1978؛ سليمان، 2019)، يحمّل المسؤولية للطرف المخادع، لا للضحية التي التزمت بحسن النية.
وقد أوضحت دراسات علم النفس التنظيمي أن خيانة الثقة لا تقتصر على الأثر المالي، بل تترك ندبة نفسية تضعف الشعور بالانتماء والثقة بالمؤسسات (Zweig, 2007)، وهي نتائج تدميرية تهدد بنية التعاون المجتمعي والمؤسسي على حد سواء.
في ظل عالم يزداد فيه التعقيد القانوني والمعلوماتي، تزداد الحاجة إلى ترسيخ أن حماية الثقة ليست موقفًا عاطفيًا، بل التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا. وحين تغدر الثقة، فإن أقسى صور الظلم أن يدان من خدع، لا من خدع؛ فذلك يحوّل القانون من أداة للعدالة، إلى أداة لإعادة إنتاج الخيانة.
قائمة المراجع (عربية)
- أبو الهيجاء، نزار. (2014). الخداع والغش في العقود: دراسة مقارنة. المجلة الأردنية في القانون والعلوم السياسية، 6(1)، 55–78.
- السقا، مها محسن علي. (2016). مبدأ حسن النية في مفاوضات عقود التجارة الدولية. القاهرة: المركز القومي للبحوث القانونية.
- سليمان، محمد. (2019). حماية المتعاقد حسن النية في القانون المدني. مجلة دراسات قانونية، جامعة الجزائر، 7(2)، 110–132.
- الترمذي، محمد بن عيسى. (ب.ت). الجامع الصحيح. تحقيق: بشار عواد معروف. بيروت: دار الغرب الإسلامي. (حديث رقم 1959)
- منصور، عبير. (2018). الأمانة المهنية وسرية المعلومات في بيئات العمل. مجلة الأخلاقيات الإدارية، 3(1)، 45–61.
- يوسف، كاظم. (2019). الإرادة الضمنية والسكوت المعبّر عنها: دراسة مقارنة. منشور على موقع ResearchGate.
https://www.researchgate.net/publication/332259488
قائمة المراجع (أجنبية)
All England Law Reports. (1877). Brogden v. Metropolitan Railway Co., 2 App Cas 666.
Cardozo, B. N. (1925). The Nature of the Judicial Process. New Haven, CT: Yale University Press.
Ekman, P. (2001). Telling Lies: Clues to Deceit in the Marketplace, Politics, and Marriage. New York: W. W. Norton & Company.
Fuller, L. L., & Eisenberg, M. A. (1978). Basic Contract Law (4th ed.). St. Paul, MN: West Publishing Co.
International Labour Organization. (2020). Confidentiality and Integrity in the Workplace: Guidelines for Employers and Workers. Geneva: ILO.
https://www.ilo.org
Luhmann, N. (1979). Trust and Power. Chichester: Wiley.
Rawls, J. (1971). A Theory of Justice. Cambridge, MA: Harvard University Press.
Transparency International. (2021). Global Corruption Report: Banking and Financial Integrity https://www.transparency.org
Zweig, D. (2007). Trust, Betrayal and Work Relationships: A Social Psychological Perspective. In R. Bachmann & A. Zaheer (Eds.), Handbook of Trust Research (pp. 150–164). Cheltenham: Edward Elgar Publishing. Bundesgerichtshof (BGH). (2009). Urteil vom 26. März 2009 – I ZR 153/06.
https://www.bundesgerichtshof.de
e-onepress.com
Estimated reading time: 14 دقائق